وجبة عشاء .. ما تمت !!
مرت عليَ في صغري .. مواقف طريفة كثيرة .. هذه أحدُها وأغربها .. وأكثرهُا عفويةٌ وبراءة .. ولكم أن تحكمُوا على ذلك بإنفسكم .. في إحدى المراتْ الكثيرة .. التي أقوم فيها بمسئولية إحضَار طعام العشاءَ لإسرتنا الصغيرة .. حدثَ هذا الموقف .. كان هذا الطعامْ .. عبارة عن طبق فول شهيْ .. مرشوشٌ على وجهه .. دقة مزبوطة وملعقة طحينة سائلة والقليل من الشطة .. ومعه بالطبع خبز التميسْ الحار .. والذي أرقبْ خروجه من الفرن .. بلهفةٍ شديدة .. كي أحملُه فوراً لعائلتي ..
كنتُ أحبُ الذهابْ كثيراً لهذا المشوار .. لكوني استمتعُ كثيراً برؤية أولئك المُتمرسين .. بحملِ أرغفةَ التميسْ الحار .. على رؤوسهم وفوقها صحنْ الفول .. حيثُ يسيرون بها بكلِ براعةً وثقة .. وبكل زهوٌ وغرور .. ذلكَ بأنهم يحققونَ إنجازاً .. لا يستطيعْ الآخرون تحقيقه .. وكنتُ أقفْ مشدوهةً أمامهم .. مندهشةً ومعجبةً ببراعتهم .. وأنا في تلكَ السنْ الصغيرة .. حيثُ كنت أرىَ كل شيء .. جميلاً مُبدعاً ..
في إحدىَ المساءات الجميلة .. وغير الجميلة .. حدثَ هذا الموقفْ الذي يصعُبُ نسيانه .. حيثُ أوصتني أمي كعادتها .. بإحضار طعامَ العشاء .. أخذتُ ذلك الصحنْ .. ذو القاعِ المتوسطْ .. والمبلغِ المطلوبْ دفعه .. وذهبتُ مسرعةً لتلك المهمة .. بعد الغروبْ مُباشرة .. وصلتُ لذاك المحل المُزدحم .. والمعرُوف بجودة طعامه .. والأهمْ لقربهِ نوعاً ما من المنزلْ .. بعدَ أن قطعتْ المسافة الأطول .. في زقاقٍ ضيقٍ طويل .. إنْ كنتْ في أوله .. أكاد لا أرى نهايته ..
وبعد أنْ طلبتْ صحن الفولَ اللذيذْ .. المجهزْ بكامل بهاراته ومُقبلاته .. وكذلك استلمتْ .. خبز التميسْ الحار المُقرمش .. وضعتُ صحن الفول على التميسْ .. حاملةً لهما بيدي .. ومسكتُ طريق العودة .. راجعةً لأسرتي بطعامِ العشاء .. ويبدُو أنني في ذلك المساءَ .. شاهدتْ أحد العرُوض المُدهشة .. لحملِ أطباق الفولْ على الرأس .. فترسخَ ذلكَ في ذهني .. عندها قررتُ للأسفْ .. أن أحققَ إنجازاً مثلهمْ ..
في ذلكَ الزقاقْ الخالي .. من جميعْ المارةُ حينُها .. جازفتْ وحملتُ التميسْ .. وفوقه صحنْ الفول .. ووضعتهُما على رأسي .. محاولةً تقليدَ الآخرينْ المُبدعينْ .. وما هيَ إلا ثواني .. ويهتزْ صحنَ الفول .. إهتزازاً مُريعاً .. ليجدْ نفسهُ مرمياً على الأرضْ .. مع بقاءَ شيئاً منْ محتوياته .. في قعرْ الصحنْ .. وخوفاً من أمي .. وما سوفَ ألقاهُ من عقابْ .. قمتُ بإعادة الفولْ الذي على الترابْ .. إلى الصحنِ مرةً أخرى .. وكأنَ شيئاً لم يكنْ .. وعدتُ مسرعةً إلى المنزلْ ..
بمجردْ عودتي .. ودونَ أن أخبرْ والدتي .. بما حدثْ .. قامتْ أمي بتجهيزِ صحنْ الفولْ .. للأكل مع برادِ الشايْ .. ولم تلحظْ عليه شيئاً .. لضعفِ الإضاءةِ المنزلية حينُها .. ولكنْ من أولِ لقمةً لها .. أدركتْ أن الفولْ .. ممزوجاً جيداً بحبيباتِ الترابْ .. وقد لاحظتْ أيضاً .. عدم جلُوسي معهمْ للعشاء .. فنادتْ عليَ بشدةٍ وغضبْ واستفسارٍ عنْ الذي حدثْ .. أخبرتُها وأنا خائفةٌ منها .. بمحاولتي البائسةِ تلك .. وأنني لخوفي منها .. جمعتْ الفولْ من الترابْ .. وعدتُ به إليهم .. غضبتْ جداً مني .. ثم ضحكتْ .. ثم قالتْ .. ليتكَ عُدتِ بما بقيَ في الصحنْ .. ولم تخلطي الطالح بالصالح .. وكان نتيجة ذلك التصرف الطفولي البريء .. هو أننا نمنا جميعاً .. على ذكرىَ طعمَ الفولِ الرهيبْ .. واكتفينا فقط .. بصحبةِ الشاهي معَ التميسْ .. وحكاياتْ والدتي الحبيبة .. يرحمُها الله .. وكانَ درساً لي لا أنســاهْ ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق