4/15/2021

طبطاب .. وجنجيح

  طبطاب .. وجنجيح 


في زمن أعتبره مميزٌ جدًا .. عشت أجمل فترات عمري في حي الرويس .. حيث كانت لنا عادات جميلة يصعب نسيانها .. خاصة تلك العادات الخاصة بالطعام .. بمختلف نكهاته وأوقاته .. ووقت الحاجة إليه .. حين كانت مراحل حياتنا في الرويس .. متدرجةٌ من الصعب جدًا .. إلى الصعب .. ومنها إلى المرتاح نوعًا ما .. ولكل مرحلة من هذه المراحل .. لها مذاقها الخاص .. سواء في الطعام .. أو في معاناة الحصول عليه ..



في أول فترة قضيناها في حي الرويس .. كانت أمي كسيدة قروية .. تقوم بخبز خبز الميفا .. ذلك الخبز المُميز بالطعم والرائحة .. وبالمجهود الكبير لإنجازه .. فهو يتطلب أولاً تجهيز الميفا .. بمعنى تنظيفها .. ومن ثم وضع الحطب فيها .. وهي ذلك الوعاء المعدني الذي يُحفر له حفرة في الأرض تناسبه .. ويُعمل لها غطاءً مُحكمًا يناسبها .. وبعدها يتم تجهيز العجين .. وذلك بعجن دقيق البر بالماء وقليل من الملح .. ويقسم إلى كور متوسطة الحجم .. ثم تترك لترتاح قليلاً .. حتى تصبح الميفا جاهزة .. لإستقبال ضيوفها .. تُمسح حواف الميفا بقطعة قماش مبلولة .. لضمان نظافتها .. ثم تُشكل أقراص العجين باليد .. لتُلصق في الحواف بكل مهارة وإتقان .. تُغطى الميفا جيدًا .. حيث يُغطى الغطاء بأكياس خيش مُتراكمة .. ومُثقلة بكمية من التراب الرطب النظيف .. كي تمنع تصاعد حرارتها للخارج .. وتُترك مدة كافية من الوقت .. ليتم إخراج أقراص الخبز ذهبية اللون .. زكية الرائحة .. لذيذة المذاق .. حيث تُؤكل مفتوتة مع حليب الشاة المحلى .. أو مع اللبن الرائب فائق الجودة ذو القشطة المُميزة .. والمُعد جيدًا في البيت بالطبع .. في وجبة صباحية عادة أو مسائية ..



ولكن إذا تَعذر على أمي يرحمها الله .. عمل خبز الميفا في المساء بالذات .. وذلك لتعبها أو انهماكها في أعمال أخرى .. فإنها تُعد لنا ما يُسمى بـ التصابيع .. وهي وجبةٌ سريعةُ التحضير .. تتكون من دقيق البر المفتوت باستخدام أصابع اليدين .. في كمية مُناسبة من الماء الساخن .. وتُحلى بالسكر.. ويُترك حتى ينضج جيدًا .. ثم تقدم في طبق مُسطح ومتوسط الحجم .. ويُصب فوقها قليل من السمن البري .. إذا وُجد بالطبع .. وجبة بسيطة جدًا وسريعة ومُفيدة .. ولازلنا حتى يومنا هذا نُعدها .. ونتلذذُ بطعمها .. ونتذكرُ أيامُنا الجميلة تلك ..



وكنا حين يأتي موسم الجراد .. فإني أتسابق مع بنات الجيران .. وأحيانًا مع الأولاد أيضًا .. على صيد كمية وافرة منه .. وكنتُ قد تعلمت على صيد الجراد بمهارة فائقة .. ونظمه في أعواد خشبية .. كي أعود لأمي فرحةٌ مسرورة .. حاملةً أعوادي تلك .. وفخورةٌ بتوفير طعام العشاء لأسرتي .. وفي تلك الليلة السعيدة والجميلة .. نتحلقُ جميعنا حول بعضنا .. لنسعد ونتلذذ بوجبة الجراد المشوي .. طعمٌ فاخر وذكرياتٌ لا تنسى ..



لقد كانت لنا أيضًا طقوسًا مُميزة .. في جلسات ساعات العصرية من كل يوم .. حيث كانت أمي حبيبتي يرحمُها الله .. تعدُ لنا الأرز المقلي مع الشاهي .. وكان هذا الأرز .. هو الذي يتبقى عن طعام الغداء .. حيث يُترك قليلاً ليجف .. ثم يُقلى في الزيت .. ولكم أن تتخيلوا مذاقه الرائع جدًا .. حين يتمُ قرمشتُه مع الشاهي .. يرافقهُ سماع الأحاديث الجميلة ..



أما فيما يخص الحلويات .. فقد أبدعت أمي الغالية يرحمها الله .. في عمل طبطاب الجنة والجنجيح .. حيث كان الأول عبارة عن سكر مُذاب بدرجة مُمتازة .. ليصبح ذهبيُ اللون دون إحراق .. ومن ثم يُصب على تبسي نظيف .. في شكل دوائر متقاربة .. ويُوضع في وسط كل دائرة .. عودًا خشبيًا ليسهُل حمله بعد جفاف السكر .. كحلاوة مصاصة مُبتكرة .. نتنافس جميعنا نحن الأخوة .. على حمل الأكبر حجمًا ..



ولكن ماهو ذلك الجنجيح !! .. إنه حلوى مُميزة جدًا .. فقد كان يتكون من السكر ودقيق البر .. والقليل جدًا من الزنجبيل المطحون إذا وجد .. حيث يُخلط الزنجبيل والدقيق مع السكر المُذاب جيدًا .. ومن ثم يُشكل وهو ساخن .. على هيئة كور صغيرة مُتجانسة شكلاً وحجمًا .. ثم تُترك لتبرد .. ومن ثم تُحفظ في وعاء مُحكم الغطاء .. هذه الحلوى البسيطة .. يتمُ التلذذُ بطعمها عند الحاجة .. للحصول على مذاق رائع .. لحلوى بيتية عالية الجودة ..



وغير ذلك من الكثير المُثير .. الذي كانت تصنعُه أمي لنا .. في جميع مراحل حياتنا يرحمُها الله .. فلقد أبدعت لاحقًا أيضًا .. في صواني مكرونة الباشميل .. وأطباق المحاشي بأنواعها .. والسمبوسة بطعامتها ورقاقها البيتي المُميز .. وغير ذلك الكثير مما صنعته أيديها .. بمهارة معروفة عنها .. ومما يُصعب حصرُه وتعداده هنا .. رحم الله والدتي وأسكنها فسيح جناته .. وجزاها الله عنَا خير الجزاء ..


هناك تعليق واحد:

  1. عشت مع مقالتك عادات الزمن الجميل وتضحيات امهاتنا الكبيره لاضفاء السعاده على حياتنا رحمهم الله وجعل قبورهم روضه من رياض الجنه تعبيرك جميل وممتع ما شاء الله عليك

    ردحذف

ومضات .. تؤرخ مسيرة !!

  ومضات .. تؤرخ مسيرة !!     حين كانت ساعة ذلك القرار .. القرار الذي اتخذته عن اقتناع .. والذي قد يكون تفاجأ به الجميع من الزميلات .. ألا وه...