الرويس .. نقطة البداية

الرويس .. نقطة البداية

عندما قدم أبي إلى الرويس تاركًا ديرته .. في زمن كانت مدينة جدة "على ما أعتقد" لا تتعدى حدودها حي بني مالك شرقًا والحوش الأصفر "كما كنا نسميه سابقًا" شمالاً .. قدم يبحث عن عمل ومعه أسرته الصغيرة .. والتي يريد لها حياة أفضل من تلك التي كان يعيشها في قريته ..

كانت حياتنا صعبة جدًا .. ولكن الحب والإتفاق بين الوالدين .. هو ما جعل كل شيء يهون ويسهل تحمله .. في سبيل البحث عن الأفضل لعائلتهم الصغيرة .. لقد بحث أبي عن عمل حتى وجد وظيفة سائق باص في وزارة الشؤون الاجتماعية .. بعد أن أتقن القيادة في مدة تدريبية بسيطة جدًا .. أما أمي فقد كانت خير معين لوالدي .. كانت لديها مهارة فائقة في التطريز والخياطة .. والتي اكتسبتها خلال حياتها في القرية .. والتي حققت بها شهرة كبيرة في حي الرويس آنذاك .. وبعد زمن ليس بالقصير .. استطاع أبي أن يشتري لأمي ماكينة خياطة مستخدمة .. وبدأت تخيط عليها لكل من تعرف ومن لا تعرف .. طلبًا لثمن تقبضه ..  يكون فيه سدًا لبابٍ مفتوح يطلب مالاً ..

أيضًا استطاعت أمي أن تكوّن حظيرة صغيرة تربي فيها زوج من الأغنام لنأخذ منها الحليب .. كما كانت تربي عدد محدود جدًا من الدجاج لنحصل على البيض .. والذي تضطر أحيانًا إلى بيعه طلبًا للمال .. كما كانت تصنع خبز الميفا بيديها .. ونحن "وأعني أنا وأختي" نكون حولها ونساعدها قدر استطاعتنا .. وكان جيران الحي آنذاك يعتبرون ذلك غريبًا جدًا عليهم .. نعم لقد قدمنا من القرية لنعيش حياة البادية في حي الرويس ..

استمرت حالة المعاناة مدة كافية .. لأخذ القرار بالرجوع عن البقاء في مدينة جدة .. ولكن تسلح الوالدين بالصبر والكفاح كان دافعًا قويًا .. في سبيل البحث عن مستقبل أفضل لهم ولذريتهم .. نعم لقد استطاع أبي بعد فترة جهد ومعاناة طويلة .. أن يفتح استراحة خارج حدود مدينة جدة .. كي يُقدم فيها وجبات العشاء من أرز وسمك مقلي .. وقد لقيت رواجًا كبيرًا وإقبالاً واسعًا .. واستمر على ذلك مدة لا يستهان بها .. ونحمد الله أن أكرم أبي بعدها بالدخول في مجال التجارة .. كما أنه أستطاع لاحقًا أن يتعلم القراءة والكتابة .. حيث التحق بالمدارس الليلية .. وكان كثيرًا ما يطلب مني تعليمه كي يجتاز كل سنوات الدراسة بنجاح .. حتى حصل على شهادة الإبتدائية .. رحم الله والدي وأسكنه فسيح جناته ..

وبعد سنوات ليست بالقليلة .. وأذكر أنه بعد تخرجي من الجامعة .. استطعت أن أقنع أمي بالالتحاق بمدارس محو الأمية .. وفعلاً أنهت المرحلة الإبتدائية في أربع سنوات .. وقد كانت الأولى على فصلها .. ونالت على ذلك هدية مميزة منحتها لي بكل حب .. لكوني شجعتها على الدراسة .. رحم الله والدتي فقد كانت خير معين .. وخير قدوةً يقتدى بها ..

إنني فخورة جدًا بوالدي يرحمهما الله .. فقد سبقا عصرهما آنذاك بمراحل .. من ناحية جودة التفكير وحسن التخطيط للمستقبل.